يقول والدي أن القدر رمانا بأرض جرداء قاحلة ،
حتى ذاك الصفر الذي بدأ البعض منه درب حياته ينعدم هنا ، فالدوار أشبه بغابة نائية , فبعد بزوغ شمس يوم جديد يكون الغزال ملزما بالجري طوال النهار كلما لمح أسدا لينجو بنفسه , و يكون الأسد ملزما بدوره بالجري ضعف ضعاف سرعة الغزال لينجو من الموت جوعا , و بغض النظر أنك أسد أو غزال هنا بالدوار , يكفي فقط أن تبدأ بالجري في كل الاتجاهات بعد بزوغ خيوط شمس يوم جديد ...
والدي الذي اشتغل طوال حياته المئات من الحرف و المهن ، ليفلح أخر المطاف بجمع بقشيش مهر أمي و حفل العرس و حفنة من حلوى 'التافزا ' فقط من عمله كبائع نعناع بدراجته النارية بباحات مدينة تزنيت و بعض جنبات 'فوك الواد' ، بصباي لم أكن قط أنال حظ لمح والدي أو مجالسته على مائدة الطعام غير أيام الأحاد أو أيام سقمه و جلوسه بالدار ، كان يغادر فراشه باكرا قبل أذان صلاة الفجر ليمضي حول الحقل ليقوم بجني 'النعناع ' و ينطلق تحت نور دراجته المهترئ على الطريق الوطنية صوب مدينة تزنيت ، يعود مساء و قد غلبنا النعاس و لازم جميعنا الفراش ، غير أمي التي تظل مستيقظة لساعات تنتظر عودته للدار ، و قد يحدث أحيانا أن تتعطل دراجته فيجرها على طول الكيلومترات التي تفصل المدينة عن أرض الدوار فيبلغ أرض الدوار و قد أوشكت الشمس على ارسال خيوطها معلنة بذاك بداية يوم جديد ، يطرق الباب بعجلة الدراجة الأمامية فقد أنهكه التعب و صار عاجزا حتى عن تحريك مرفق يديه ، يبلغني صوت اصطدام العجلة بالباب الصدئ ، أعجز عن الاستيقاظ وسط ظلام الغرفة الذي يجعلني أموت فزعا ، حتى أكوام لحم إخوتي تمنعني عن الحركة ، أخاله قد يخلع الباب بأي لحظة و أمي لم تستيقظ بعد من سباتها ،لم أرى شخصا يغفو بهذا الشكل كوالدتي، تستطيع أن تضرب رأس أمي بمطرقة حديدية و لن تستيقظ ، عكس والدي كان نومه خفيفا ، حتى أني أخاله يتصنع النوم فقط و يتكوم تحت الغطاء ، فيكفي أن أعطس بأحد قرى الاسكيمو فيبلغ ذاك مسامع والدي ، يحدث أحيانا أن يستيقظ بمنتصف الليل و يهرول نحو المطبخ ليطارد قطا منهمكا بإلتقاط بعض فتات الخبز على مائدة العشاء حيث عجزت أمي عن تنظيفها ، رغم كل المهن التي أتقنها والدي ظل لقب ' مول النعناع ' يطارده حتى اليوم و إن توقف عن مزاولة هكذا مهنة منذ سنوات خلت ، لم يتوقف الجميع عن ترديد هذا اللقب اللعين حتى بعد عودة والدي من أرض تونس بعد سنتين قضاهما بعيدا عن الدار و الدوار ، كان الجميع يومها يلقي كلمات التهنئة بوجهه قائلين ' علا سلامتك ، رجعتي لبلادك أمول النعناع ' ، هذا اللقب قد يلاحق والدي حتى بعد وفاته ، كان الأمر يقتلني حقا ، لست أقصد أني أخجل من كون والدي 'بائع نعناع ' ، بل يقتلني أن يردد الأخرون لقب مهنة توقفت عن مزاولتها ، ماذا لو كان والدي لصا بسابق عهده و عدل أخيرا عن هكذا أمر و تاب لله عز وجل ،أكانوا هم حينها ليرددوا عبارة 'الشفار ' حتى و هو يواظب على الصلاة بل و يملأ فراغ الإمام بالمسجد حينا ، حقا عجزت عن تخيل الأمر أن تسمع أحدهم يطلب لوالدي أن يقوم لإمامة الصلاة قائلا ' نوض أشفار صلي بينا را الفقيه ماحاضرش ليوما ' ... أحب والدي هذا الشخص العصامي الذي لم يدلف يوما باب مؤسسة تعليمية فلا هو قرأ حرفا من كتاب و لا رقما من حساب ففي زمن أختلطت فيه عبارات العشق بالحابل و النابل و تناثرت فيه كلمة 'أحبك' يمنة و يسرة لمغني غربي أو لاعب كرة قدم او ممثل تركي وسيم ذو لحية كثة أو فقط شاب يائس مثلي، فبودنا نحن المغلوبون على أمرهم أيضا أن نلتقط كلمة 'أحبك' على مذياع سيارة اجرة أو كعبارة كتبت على حائط مرحاض الجامعة و ما المانع في ذلك !
قررت اليوم و انا بكامل قواي العقلية و الجسدية ان أعترف بحبي لوالدي 'أحمد حفظي ' أو 'دا حماد ' كما يحلو لأناس الدوار مناداته لا لشيء فقط لبعض الشيب الذي يبرز من تحت عمامته ، و الامر سيان بالنسبة لي ما دامت مشاعر حبي لشخص نفسه و ان اختلفت ألقابه حتى و ان نطقت أفواههم النتنة مجددا عبارة 'مول النعناع' ، لم اعترف يوما بحبي له و لن اعترف به و لست مضطرا للاعتراف به أيضا .. لست اقول هنا ان أبي لن يعي المغزى من كلمة 'أحبك ' ان نطقتها امامه حاشى لله ، فما أن تغادر فاهي حتى أحمر خجلا فيخالني حينها فعلت سوءا و قد ينتهي بي المطاف نائما بأزقة الدوار ، لو لم يكن أبي رجلا أميا لبعثت له برسالة نصية على هاتفه اتغزل فيها لشخصه و أحكي عن مدى حبي له ، قد يمضي نحو زوجته يستسعدها قراءة الرسالة بعد أن يوقظه رنين الهاتف من قيلولته و هو يشتم المرسل و يتوعد بأن يهشم رأسه بأن أباد النعاس عن جفونه بقيلولته المقدسة ، فتعتذر زوجة والدي بلطف و أنها عاجزة عن مطالعة ما كتب بلغة 'القوران' تلك و تقصد هي القرأن ، فيمضيا كلاهما نحو أخي عثمان يرجوانه لبعض من الزمن قبل ان يمتثل اخيرا لطلبهم وعبارات التهكم تملأ فمه .. يبدأ بسرد ما بالرسالة يحمر هو خجلا و يحاول اخفاء قهقهته و تحمر زوجته غضبا و غيرة لا ريب أن يحمر وجه والدي ضربا ظنا منها أن والدي خائن و جاور غيرها من النساء ... لذا أحببت الاعتراف بحبي لوالدي هنا بالفايسبوك 'لا عين شافت و لا قلب وجع 'و إنما الاعمال بالنيات ....
Comments
Post a Comment