الشجعان يموتون ، العباقرة يصابون بالجنون ، الأوفياء يتألمون في صمت ، الأصحاء يمرضون و الشيخ يرمون بدار العجزة
فتظل الحياة مليئة بالمغفلين السعداء مثلي أنا و والدي ، فوالدي ذاك ااشخص الذي لم يتغير طوال حياته و لم يبدي أي رغبة في تغيير شيء من طباعه ، يعيش حياة روتينية يراها الأخرون مليئة بالضجر و اليأس ، في حين يراها هو جنته الخاصة و نعيمه الأبدي التي تعلق به لسنوات من عمره فصار من الصعب اقتلاع أحدهما عن الأخر ، يقول أبي أن لقاءه بأمي كان أجمل صدفة ... أروع قصة .. و أصدق حب على الإطلاق ، و التي انتهت بدقات من يد أبي الخشنة على باب منزل أمي الخشبي ، و تكون هي صدفته المفضلة لأخر حياته قبل أن يخطفها منه الموت ، و إن كان هو يعر بحضورها معنا دائما بالبيت فيعود و يحكي لنا قصص مغامراته معها ، فالأباء لا يموتون و إن دفنوا ...أمي لم تكن ببائعة الكبريت لتنال قصتها حظا من ألسنة الأجيال القادمة ، كانت هي قد سرقت لقب البائعة فقط ، باعت البيض و الدجاج و ما كانت تحلبه من بقرتها الحلوب لتشتري بعضا من الطعام و اللباس ، لا ريب و أنها لو عاشت أطول لسرقت لقب الكبريت أيضا ، و إن كانت الثلوج لم تعرف طريقها قط للقرية ما يجعلني على يقين أن أمي لن تموت بسبب الثلج ، ربما تموت بشيء أخر غير الموت .
كانت تقول لي دائما كلما شعرت بالوحدة يا بني ، أنظر للقمر ، شخص ما في مكان مايحدث بالقمر نفسه و يشعر بالوحدة أيضا ، فلم أتردد في النظر للقمر فلمحت صورة أمي ،ليست هي بجمالها الذي عهدته عنها لسنوات لكنني على يقين أنها كانت أمي ، و كان ذلك أفضل من أن أتصنع رؤية صورة حاكم البلاد على القمر كما فعل أجدادي قبل سنوات ..
لم يملك والدي أبدا حسابا بنكيا ، فالميراث الوحيد الذي ينشغل به هو ترك إخوة متحابين ، والدي ذاك القروي الذي لا يدري شيئا عن اللقاح الصيني أو الهندي و لا عن الإتحاد الأوروبي و أعضاءه و لا عن بدر هاري و ريكو الهولندي ، والدي شخص بسيط ، بعيد عن تعقيدات الحياة ، لا يتابع نشرات الأخبار و لا يكترث لما يبثه تلفازنا من برامج يومية و يقول عنها دائما بالتافهة و أنها مجرد مضيعة للوقت و للكهرباء أيضا ، يكره هو التلفاز و يمقته مقتا ، و لن يتردد أبدا بحمله بعيدا و بيعه بسوق الأجهزة المستعملة و شراء عنزة و دجاجتين بلديتين و كيلو من البطاطس و خبزا يابسا لنعجته الأعرج ، يفضل الإستماع لمذياعه الذي يتأبطه أينما حل و إرتحل ، الحقل ، سطح البيت ، المرحاض ، حتى أنه كان ينوي حمله معه و هو في طريقه للمسجد غير أني نجحت أخيرا في اقناعه بالعدول عن فكرته ، كان الجميع هناك من المصلين ليظن أن والدي يحمل قنبلة ما بمجرد أن يجتاز باب المسجد ، تلتصق أذنا والدي بالمذياع و كأنه يخشى أن تغيب عنه كلمة واحدة مما يتقأيه المذياع ، يستمع للموسيقى الأمازيغية المنبعثة منه و قد يحدث و أن يكون جالسا بالحقل فيغني بصوته الأشبه بفحيح أفعى أو كمن شرب قنينة بنزين ، لا يكترث للمارين من أبناء القرية و سخريتهم من صوته أو غثيان البعض الأخر من غنائه القبيح ، يحمل قطعة حديدية و يبدأ بالنقر عليه ، يستمر الوضع لساعات ، يغوص بعالمه الخاص ، فوحده الجندي من يعلم أثناء المعركة كم كانت أسبابها تافهة ، هو نفس ما يشعر به والدي حينها ، هو الوحيد من يعرف تفاهة العالم بالخارج ، هكذا ألف والدي أن يمضي أيامه هنا بالقرية و هو الذي قارب عقده السابع بعيدا عن صخب المدينة ، لم يرتدي يوما ربطة عنق و لم يدلف أحد المطاعم الفاخرة أو وضع مؤخرته على كراسي 'كرارس خانز و بنين ' ، لم يستعمل مشطا يوما و لم يتعطر من قنينة عطر ، و يقول أن رائحة القرية جملت أبنائها و زكمت أنوف الغرباء ، يعود من المسجد مساء فور أداء صلاة العشاء و يصيح بنا قائلا 'ديرو رباط نشوف الطقس ' ، النشرة الجوية هي البرنامج الوحيد الذي يتابعه والدي ليتأكد من سقوط الأمطار من عدمه ليحرث أرضه الجرداء ، لا يبالي بمن اعتلى منصب رئيس الحكومة ولا تأهل المنتخب لكأس العالم ، لكنه يعرف أنواع التربة و ثمن الكيلو من البطاطس الأسبوع ما قبل الماضي ، و أنواع الدواجن و أسمائها ، كيفية حرث الأرض و ريها و جني المحصول ..
Comments
Post a Comment