" هذه هي الرسالة الأخيرة يا فتاتي تركتها حتى يحل فصل الصيف ، ففي الصيف تُقرأ الرسائل بأعصاب باردة و عيون يداهمها النعاس و ليل طويل بنسائم بحرية تختال بين نعومتها القصص والحكايات ، بالأمس مررت على الرف القديم فأبصرت بين الكتب قصاصات صغيرة كتبت عليها بعض المختارات من حديث القمر للمنفلوطي ورسائل غسان لغادة و الأمر كالمعتاد فأنا أسجل ما يعجبني في هذه النصوص لأن ذاكرتي تحترق عند القراءة ولكن ما جعلني أتجرأ لأكتب هذه الرسالة هو ما جاء في رسائل ديستوفسكي من الغيوم المحملة بالحكمة ، ويالها من عبارة متفجرة و صلبة وهو يراسل صديقه ألكسندر فرانغيل فيقول له : أكتب لها الحقيقة ، الحقيقه وحدها . المهم أن تكتب بالتفصيل " ، نعم ، الحقيقة التي حفرت لها جبا غائرا ودفنتها بداخله لم أكن قادرا على مجابهتها ولا النظر إليها ، لطالما أعتقدت أن هذه الحقيقة يجب أن تعدم و تختفي للأبد كأنها كائن مسخ بزقته نبضاتنا و إحتوته الطبيعة ، الآن فقط وبعد مرور شهور على دفن الجثة المغتالة والقذف بها في جب النسيان حان الوقت لنستخرجها ونبدأ الصفحة من جديد
لطالما تساءلت عن الطريقة التي يغيب بها الموت الذين نحبهم . كيف يستطيع هذا الملعون أن يخفي أعمارا و أحلاما في لمح البصر و يجثم على الفراغات التي تركوها رابضا وصامتا ، ومضت الأيام و اكتشفت كم كان الموت بريئا من كل التهم و عصيا على غبار الريح ، إن الموت لا يغيب أحدا ولكنه يمنع العمر من الإنتحار ويحفظ أناشيد الكينونة من الإندثار ، الحياة يا فتاتي هي التي تسرق كل شيئ تسرقك وتسرق إنتباهي و إنتباه الأصدقاء لكدمة في وجهي ، الحياة يا مجنونتي هي النفق السحيق العاتي ، الحياة وحدها لا تعرف الرحمة
أحاول أن أكتب شيئا في هذا المساء الأسمر الغارق في الإكتئاب ، أصابعي ترتعش و كأنها تمارس طقوسا خاصة بها ولكنها طبيعة متوارثة ، أصابعنا ترتعش كأنها إنتهت للتو من تنفيذ جريمة إغتيال ولكننا في الحقيقة نغتال الكذبة و الخرافة ، جدي مزارع أسمر نحيف و صامد كتب بأقدامه الأرض و أنبت فيها الحب ( بفتح الحاء) والحب (بضم الحاء ) و أنا اليوم أكتب على أوراق ، وانت تعرفينني عندما أبدأ في الكتابة فكأنني أسقط في بالوعة من الجحيم و أذوب من فرط اللذة و الخيال ، عالم الكتابة هو القطيعة مع الملموس والمحسوس و إعتناق لعالم البرزخ في لونه الوردي الفاخر
لا أعرف لماذا يعتقد البعض أن الإبتعاد هو رحيل و نكران ؟ لا يا عزيزتي البعض يبتعد ليحافظ على ما تبقى من قبس مضيئ في علاقته بالآخر ، يطوي ظله المخذول ويكتب على الجدار " هنا تصارع الصداقة سكرات التشظي و تقاوم خطر الإنمحاء " ، هل تعتقدين أني أردت أن أمضي بمحض إرادتي ؟ كل مادار في خلدي تلك الليلة أن أخرج وأركض و أعوي كذئب فقد أنيابه و أضاع مخالبه ، وقد ركضت بكل قوة حتى إعتقدت أني شبح أسود يبحث عن جسد "
Comments
Post a Comment