أكبر مخاوفي أن يصير والدي شيخا مسنا , عجوزا ذا لحية
كثة و شارب , أن ألمح إنحناء ظهره و ينتهي به المطاف يستسعد الخطى من عكاز خشبي , فتتساقط أسنانه تباعا ليجعل لنفسه طقم أسنان يسقط حينا في غفلة منه , يعيد هو تعديله في كل مرة , تصطك اسنانه كرشاش ألي , يقف هو ببهو الدار يحاول جعل أخي الأصغر أيوب يخطو خطواته الأولى في الحياة بينما هو يخطو خطواته الأخيرة , يشرع بمشاركة أخي الطعام , بأن صارت 'الحريرة ' و 'الصوبا ' وجباته اليومية , ينخره الشوق لأيام الصبا و يصيح بكل مرة تضع فيها زوجته زلافة 'صوبا' أمامه , 'يا ليت الشباب يعود يوما و أخبره بما فعلت بي الصوبا' , يصير هو كائنا خائر القوى , كتلة لحم مهترئ , يضع نظرات 'قعار الكيسان' , و يحكمها بخيط خوفا من أن تسقط , تغيب عتاباته عن الدار , و يتلاشى تدريجيا صدى ترديده لتلك الأغاني الأمازيغية و نقره على الأواني و صينية الشاي , يظل جليس ركن الدار و يلعب بسبحته و يتقاعس عن المضي للصلاة في المسجد مع الجماعة بعد أن خارت قواه , يراقب كل شيء بصمت , فتندثر ملامح الأب القروي الذي كان يرتدي رداءه لسنوات , سيتناسى أمر مذياعه المهترئ و أمر محراثه الخشبي و أرضه الجرداء , يغادر الدار متثاقلا بعد أن ألبس جسده جلبابا صوفيا , يتجاهل نصائح زوجته بأن يظل جليس البيت , يستند حائط الدار و يمضي نحو دكان جارنا سبيركلوس , يرمي بثقل مؤخرته على صندوق بلاستيكي , يترك قدميه عاريتين لتلسعهما أشعة الشمس الساطعة , يقلبهما كل حين , يلعب بأصابع قدمه البارزة من ثقب الجورب , يلمح صرصورا خلف قنينات الغاز , ينقر على القنينة نقرا و يطارد الصرصور بطرف عكازه , يتعوذ كل حين من الشيطان , يتفل جانبا , و يواري تفلته ببعض التراب , يراقب الجميع في صمت , يتفحص الدالفين لدكان سبيركلوس من أخمص القدمين إلى أعلى الرأس , يعدل نظاراته , يمسحها بطرف جلبابه , يسعل عاليا , و يلتقط سبحته من جيب سرواله القندريسي , يحمل بلغته الجلدية و يضرب بها على الحائط ليسقط ما علق بها من حصى , يعود سبيركلوس ليجلس لجواره , فيسأل عن حال والدي , فيجيب هو قائلا أن الوقت قد حان حقا للقاء عزرائيل , يحاول سبيركلوس اقناعه أنه لا زال بمقتبل العمر , يضحك عاليا , و كانت ضحكته سخيفة , يسقط طقم الأسنان من جديد , ينفض ما علق به من تراب , يعيد تعديله , قبل أن يمده سبيركلوس بقطعة حلوى و يرمي بها لطاحونة أسنانه و عيناه تلاحقان الصرصور الذي عاد ليلتقط فتات قطعة الحلوى..يبيع عنزاته بعد أن صار عاجزا على ملاحقتها خارجا , يحزن بأن جعله الوهن غير قادر على مواصلة الحياة كقروي من قاع قيعان القرية , يشرع الصبية بدغدغته كلما صادفوه خارجا و ينطلق هو بشتم الجميع حتى أبناءه و الوطن , يفقد شيئا من حواسه , لنجد نحن أبناءه عسرا بمبادلته أطراف الحديث , نصيح عاليا عله يلتقط شيئا من حديثنا معه , يرد بضجر أن لا حاجة للصياح فأذناه سالمتان , يعجز عن استيعاب الحديث بعد خفض مستوى الصوت , نصيح مجددا فيطاردنا بعكازه الخشبي ...
Comments
Post a Comment